فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [32].
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أي: في الافتتان به: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} أي: امتنع، طالباً للعصمة، مستزيداً منها.
قال الزمخشري: الاستعصام بناء مبالغة، يدل على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة، وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه: استمسك، واستوسع الفتق، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام، لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه برئ مما أضاف إليه أهل الحشو، مما فسروا به الهم والبرهان. انتهى.
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} أي: ليعاقبن بالسجن والحبس: {وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} أي: الأذلاء المهانين.
ولما سمع يوسف تهديدها:

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [33].
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أي: من مواتاتها؛ لأنه مشقة قليلة تعقبها راحات أبدية. ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} يعني: ما أردن مني: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية: {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} أي: بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح.
قال أبو السعود: هذا فزع منه، عليه السلام، إلى ألطاف الله تعالى. جرياً على سنن الأنبياء والصالحين، في قصر نيل الخيرات، والنجاة من الشرور، على جناب الله عز وجل، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن. انتهى.
قال القاشاني: وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبداً.

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [34].
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} أي: أجاب له دعاءه: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} أي: أيده بالتأييد القدسي، فصرفه إلى جناب القدس، ودفع عنه بذلك كيدهن: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} أي: لدعاء المتضرعين إليه: {الْعَلِيمُ} أي: بما يصلحهم.

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [35].
{ثُمَّ بَدَا لَهُم} أي: ظهر للعزيز وأهله {مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} أي: الشواهد على براءته: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} أي: إلى مدة يرون رأيهم فيها.

.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [36].
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} روي أنهما غلامان كانا لفرعون مصر، أحدهما رئيس سقاته، والآخر رئيس طعامه، غضب عليهما فحبسهما، فكانا مع يوسف. ثم رآهما يوماً وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فذكرا له أنهما رأيا رؤيا غمتهما، وليس لهما من يعبرها. فقال لهما: أليس التأويل لله؟ قصَّا عليَّ! فذلك قوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَآ} وهو صاحب شرابه: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} أي: عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه، أو الخمر بلغة عمان: اسم للعنب، وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأن بين يدي وعاءاً فيه ثلاثة قضبان عنب، ثم نضجت عناقيدها وصارت عنباً، وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذت العنب، وعصرته في الكأس، وناولتها لفرعون.
{وَقَالَ الآخَرُ} وهو صاحب طعامه: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} وذلك أنه قال له: رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال حُواري، والطير تأكل من السلة العليا فوق رأسي.
{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أي: أخبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أو من المحسنين إلى أهل السجن، تداوي مريضهم، وتعزي حزينهم، وتوسع على فقيرهم، فأحسن إلينا بكشف غمتنا، إن كنت قادراً على ذلك.
ثم أشار، عليه السلام، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل، لوجود مثاله في المنام، وأن له علماً فوقه، وهو أن يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة، وإن لم يكن هناك مقدمة المنام، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم، يبينه لهما قبل إتيانه، وإن ذلك ليس من باب الكهانة، بل من الفضل الرباني لمن يصطفيه بالنبوة، وهذا معنى قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [37].
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} أي: قبل أن يصلكما. والمراد بالطعام: ما يبعث إلى أهل السجن. وتأويله ذكر ما هو، بأن يقول: يأتيكما طعام كيت وكيت، فيجدانه كذلك. وحقيقة التأويل: تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد.
قال أبو السعود: فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام، إما بطريق الاستعارة. فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل، بالنظر إلى ما رُئي في المنام، وشبيه له. وإما بطريق المشاكلة، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما: {نَبِّئْنا بِتأويلهِ}. ومراده عليه السلام بذلك: بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها. وإنما تخصيص الطعام بالذكر؛ لكونه عريقاً في ذلك، بحسب الحال، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيتين المتعلقتين بالشراب والطعام.
{ذَلِكُمَا} أي: ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات: {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} أي: بالوحي والإلهام، لا من التكهن والتنجيم. وفيه إشعار بأن له علوماً جمة، ما سمعاه شذرة من جواهرها. وقوله تعالى: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [38].
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} هذه الجملة إما مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي والإلهام، أي: خصني بذلك لترك الكفر، وسلوك طريق آبائي المرسلين، أو كلام مستأنف، ذكر تمهيداً للدعوة، وإظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به، والمراد بتركه ملة الكفر: الامتناع عنها رأساً، كما يفصح عنه قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ} أي: ما صح ولا استقام ذلك لنا، فضلاً عن الوقوع. وإنما عبر عنه بذلك؛ لكونه أدخل بحساب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام، والتخصيص بهم مع أن الشرك لا يصح من غيرهم أيضاً؛ لأنه يثبت بالطريق الأولى. أو المراد: نفي الوقوع منهم لعصمتهم. وتكرير {هم} للدلالة على اختصاصهم، وتأكيد كفرهم بالآخرة، وزيادة {من} في المفعول أعني: {مِن شَيْءٍ}؛ لتأكيد العموم، أي: لا نشرك به شيئاً من الأشياء، قليلاً أو حقيراً، صنماً أو ملكاً أو جنياً أو غير ذلك.
وقوله: {ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} يعني عدم الإشراك بالله، وهو التوحيد، من نعم الله العامة، التي يجب شكره تعالى على الهداية لها بالفطر السليمة، ونصب الدلائل الأنفسية والآفاقية.
ثم بين أن أكثر الناس نبذوا هذه النعمة بعد ما حق عليهم شكرها.
ولما ذكر، عليه السلام، ما هو عليه من الدين القويم، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام، فضرب لهما مثلاً يتضح به الحق حق اتضاح، بقوله:

.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [39].
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة، وبذل النصيحة. أي: يا صاحبي فيه. فجعل الظرف توسعاً، مفعولاً به. أي: أأرباب شتى تستعبد الناس خير لهم، أم أن يكون لهم رب واحد قهار لا يغالب؟!.
قال بعضهم: دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالباً بالاعتقاد، جاء هادياً لوجه الحسن فيه. وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرق الآلهة يفرق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم. وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى. أما اعتقاد جميعهم بإله واحد، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد، يخضع الجميع لحكمه، وفي ذلك نظام أخوتهم، وهي قاعدة سعادتهم. فالشرع جاء مبيناً للواقع في أن معرفة الله بصفاته حسنة في نفسها، فهو ليس مُحْدِثَ الحسن. انتهى.
وفي قوله: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام، من عبادة أصنام شتى. يقول بعضهم: كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة، كذلك في عبادة الأصنام، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض.

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [40].
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي: من دون الله: {إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤكُم} يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها: {مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي: حجة تدل على صحتها: {إِنِ الْحُكْمُ} أي: في أمر العبادة والدين: {إِلاَّ لِلّهِ} لأنه مالك، وهو لم يحكم بعبادتها؛ لأنه: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}؛ لأن العبادة غاية التذلل، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة {ذَلِكَ} أي: التوحيد الدال على كمال عظمة الله، بحيث لا يشاركه فيها غيره: {الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: الحق المستقيم الثابت {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لجهلهم، ولذا كان أكثرهم مشركين.
تنبيه:
لا يخفى أن قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} إلى هنا، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما، مهد عليه السلام بها له ليدعوهما إلى التوحيد، ليزدادا علماً بعظم شأنه، وثقة بأمره، توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما، لاسيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب، فرجا أن يختم له بخير.
قال الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان، ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله. وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به، وأوجب عليه مما استفتي فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه: أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم، فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية. انتهى.
وبعد تحقيق الحق، ودعوتهما إليه، وبيانه لهما مرتبة علمه، شرع في تفسير ما استفسراه. ولكونه بحثاً مغايراً لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال:

.تفسير الآية رقم (41):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [41].
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} أي: يخرج من السجن، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر: {وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ} أي: فيقتل ويعلق على خشبة، فتأكل الطير من لحم رأسه {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: قطع وتم ما تستفتيان فيه. يعني: مآله، وهو نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. والتعبير عنه بـ: {الأمر}، وعن طلب تأويله بالاستفتاء تهويلاً لأمره، وتفخيماً لشأنه؛ إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم، المبهمة الجواب، وإيثار صيغة الاستقبال، مع سبق استفتائهما في ذلك؛ لما أنهما بصدده، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره.

.تفسير الآية رقم (42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [42].
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي: قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين، أي: خلوصه من السجن والقتل، وهو الساقي: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي: اذكر حالي وصفتي، وعلمي بالرؤيا، وما جرى عليّ عند الملك سيدك، عسى يخلصني مما ظلمت به.
والظن بمعنى العلم واليقين، ورد كثيراً، والتعبير به إرخاء للعنان، وتأدب مع الله تعالى. وقيل: الظن بمعناه المعروف، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضاً، والأول أنسب بالسياق.
تنبيه:
دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة، ولو مشركاً. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: من الآية 2]، وقوله حكاية عن عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} [آل عِمْرَان: من الآية 52] و[الصف: 14] وفي الحديث: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه». وجلي أن ذلك من نظام الكون، والعمران البشري، ولذلك ميز الإنسان بالنطق.
وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً: لو لم يقل- يعني يوسف- الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى. فقال الحافظ ابن كثير: حديث ضعيف جدًّا، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما. ثم قال: وروي أيضاً مرسلاً عن الحسن وقتادة. قال: وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قُبل المرسل من حيث هو، في غير هذا الموطن- والله أعلم- انتهى. ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة.
وقوله تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} يعني: فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك {فَلَبِثَ} أي: مكث يوسف: {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} أي: طائفة منها.
ولأهل اللغة أقوال في البضع: ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يعني ما بين الواحد إلى الأربعة. وقيل غير ذلك.
ولما دنا الفرج من يوسف عليه السلام، برحمته تعالى، ما هيأه من الأسباب، رأى فرعون مصر هذه الرؤيا التي أشار إليها تعالى بقوله: